فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفاء في {فهذا يوم البعث} فاء الفصيحة أفصحت عن شرط مقدر، وتفيد معنى المفاجأة كما تقدم عند قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُّوكم بمَا تَقُولون} في سورة الفرقان (19)، أي إذا كان كذلك فهذا يوم البعث كالفاء في قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا ** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وهذا توبيخ لهم وتهديد وتعجيل لإساءتهم بما يترقبهم من العذاب.
والاقتصار على {فهذا يوم البعث} ليتوقعوا كل سوء وعذاب.
والاستدراك في {ولكنكم كنتم لا تعلمون} استدراك على ما تضمنته جملة {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} أي لقد بلغكم ذلك وكان الشأن أن تستعدوا له ولكنكم كنتم لا تعلمون، أي: لا تتصدون للعلم بما فيه النفع بل كان دأبكم الإعراض عن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي التعبير بنفي العلم وقصد نفي الاهتمام به والعناية بتلقيه إشارة إلى أن التصدي للتعلّم وسيلة لحصوله.
{فَيَوْمَئذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا مَعْذرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}.
تفريع على جملة {كذلك كانوا يؤفكون} [الروم: 55].
والذين ظلموا هم المشركون الذين أقسموا ما لبثوا غير ساعة، فالتعبير عنهم بالذين ظلموا إظهار في مقام الإضمار لغرض التسجيل عليهم بوصف الظلم وهو الإشراك بالله لأنه جامع لفنون الظلم، ففيه الاعتداء على حق الله، وظلم المشرك نفسه بتعريضها للعذاب، وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، وظلمهم المؤمنين بالاعتداء على أموالهم وأبشارهم.
والمعذرة: اسم مصدر اعتذر، إذا أبدى علة أو حجة ليدفع عن نفسه مؤاخذة على ذنب أو تقصير.
وهو مشتق من فعل عذره، إذا لم يؤاخذه على ذنب أو تقصير لأجل ظهور سبب يدفع عنه المؤاخذة بما فعله.
وإضافة مَعْذرَة إلى ضمير {الذين ظلموا} تقتضي أن المعذرة واقعة منهم.
ثم يجوز أن تكون الإضافة للتعريف بمعذرة معهودة فتكون هي قولهم {ما لبثوا غير ساعة} [الروم: 55] كما تقدم، ويجوز أن يكون التعريف للعموم كما هو شأن المصدر المضاف، أي: لا تنفعهم معذرة يعتذرون بها مثل قولهم {غَلبتْ علينا شقوتنا} [المؤمنون: 106] وقولهم {هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38].
واعلم أن هذا لا ينافي قوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات: 36] المقتضي نفي وقوع الاعتذار منهم لأن الاعتذار المنفي هو الاعتذار المأذون فيه، أي: المقبول، لأن الله لو أذن لهم في الاعتذار لكان ذلك توطئة لقبوله اعتذارهم نظير قوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255].
والمثبت هنا معذرة من تلقاء أنفسهم لم يؤذن لهم بها فهي غير نافعة لهم كما قال تعالى: {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 106 108] وقوله: {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} [المؤمنون: 65].
وقرأ الجمهور {تنفع} بالمثناة الفوقية.
وقرأه حمزة وعاصم والكسائي وخلف بالتحتية وهو وجه جائز لأن معذرة مجازيُّ التأنيث، ولوقوع الفصل بين الفعل وفاعله بالمفعول.
و{يُستعتبون} مبني للمجهول والمبني منه للفاعل استعتب، إذا سأل العُتبَى بضم العين وبالقصر وهي اسم للإعتاب، أي إزالة العَتب، فهمزة الإعتاب للإزالة، قال تعالى: {وإن يَستعتبوا فما هُمْ من المُعتَبين} [فصلت: 24]، فصار استُعتب المبني للمجهول جاريًا على استَعتب المبني للمعلوم فلما قيل: استعتب بمعنى طلب العُتبى صار استُعتب المبني للمجهول بمعنى أُعْتب، فمعنى {ولا هم يستعتبون} ولا هم بمزال عنهم المؤاخذة نظير قوله: {فما هم من المعتبين}.
وهذا استعمال عجيب جار على تصاريف متعددة في الفصيح من الكلام، وبعض اشتقاقها غير قياسي ومن حاولوا إجراءه على القياس اضطروا إلى تكلفات في المعنى لا يرضى بها الذوق السليم، والعجب وقوعها في الكشاف.
وقال في القاموس: واستعتبه: أعطاه العتبى كأعتبه، وطلب إليه العتبى ضدٌّ.
والمعنى: لا ينفعهم اعتذار بعذر ولا إقرار بالذنب وطلب العفو.
وتقدم قوله: {ولا هم يستعْتبون} في سورة النحل (84). اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {الله الذي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}.
قد بين الله تعالى الضعف الأول الذي خلقهم منه في آيات من كتابه، وبين الضعف الأخير في آيات أخر، قال في الأول: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاءٍ مَّهينٍ} [المرسلات: 20] وقال: {خَلَقَ الإنسان من نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصيمٌ مُّبينٌ} [النحل: 4] وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ من نُّطْفَةٍ} [الطارق: 56] وقال: {كَلاَّ إنَّا خَلَقْنَاهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 39] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الضعف الثاني: {وَمنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَل العمر} [النحل: 70] و[الحج: 5] وقال: {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ في الخلق أَفَلاَ يَعْقلُونَ} [يس: 68] إلى غير ذلك من الآيات، وأشار إلى القوة بين الضعفين في آيات من كتابه كقوله: {فَإذَا هُوَ خَصيمٌ مُّبينٌ} [النحل: 4] وإطلاقه نفس الضعف، على ما خلق الإنسان منه، قد أوضحنا وجهه في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {خُلقَ الإنسان منْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] الآية. وقرأ عاصم وحمزة من ضعف في المواضع الثلاثة المخفوضين، والمنصوب بفتح الضاد في جميعها، وقرأ الباقون بالضم.
واختار حفص القراءة بالضم وفاقًا للجمهور: للحديث الوارد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عطية العوفي أنه أعنى ابن عمر قرأ عليه صلى الله عليه وسلم: {من ضعف} بفتح الضاد، فرد عليه صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يقرأها بضم الضاد، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، ورواه غيرهما والعلم عند الله تعالى.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار} [يونس: 45] وفي غير ذلك.
{وَقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَالْإيمَانَ لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتَاب اللَّه إلَى يَوْم الْبَعْث فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْث وَلَكنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار إذا بعثوا يوم القيامة، وأقسموا أنهم ما لبثوا غير ساعة يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان، ويدخل فيهم الملائكة، والرسل، والأنبياء، والصالحون: والله لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في سورة يس على أصح التفسيرين، وذلك في قوله تعالى: {قَالُوا ياويلنا مَن بَعَثَنَا من مَّرْقَدنَاَ} [يس: 52].
والتحقيق أن هذا القول الكفار عند البعث، والآية تدل على دلالة لا لبس فيها، على أنهم ينامون نومة قبل البعث كما قاله غير واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون: أي هذا البعث بعد الموت، الذي وعدكم الرحمن على ألسنة رسله، وصدق المرسلون في ذلك، كما شاهدتموه عيانًا فقوله في يس: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [يس: 52] قول الذين أوتوا العلم والإيمان، على التحقيق، وقد اختاره ابن جرير، وهو مطابق لمعنى قوله: {وَقَالَ الذين أُوتُوا العلم والإيمان لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتَاب الله إلى يَوْم البعث} الآية.
والتحقيق أن قوله هذا إشارة إلى ما وعد الرحمن وأنها من كلام المؤمنين، وليست إشارة إلى المرقد في قول الكفار {مَن بَعَثَنَا من مَّرْقَدنَا هَذَا} [يس: 52]، وقوله في كتاب الله: أي فيما كتبه وقدره وقضاه.
وقال بعض العلماء: إن قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [يس: 52] الآية من قول الكفار، ويدل له قوله في الصافات: {وَقَالُوا ياويلنا هذا يَوْمُ الدين هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ به تُكَذّبُونَ} [الصافات: 20- 21] الآية.
{فَيَوْمَئذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا مَعْذرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}.
قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
قد قدمنا ما فيه من اللغات، والشواهد العربية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ للَّذينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ منْ ضَعْفٍ}.
الحق- تبارك وتعالى- بعد أنْ عرض علينا بعض الأدلة في الكون من حولنا يقول لنا: ولماذا نذهب بعيدًا إذا لم تكْف الآيات في الكون من حولك، فانظر في آيات نفسك، كما قال سبحانه: {وفي أَنفُسكُمْ أَفَلاَ تُبْصرُونَ} [الذاريات: 21] وجمع بين النوعين في قوله سبحانه: {سَنُريهمْ آيَاتنَا في الآفاق وفي أَنفُسهمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53].
فهنا يقول: تأمل في نفسك أنت: {الله الذي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} [الروم: 54]، فإنْ قال الإنسان المكلف الآن: أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خُلقْتُ منها.
نقول: نعم لم تشاهدها في نفسك، فلم تكُنْ لك ساعتها مشاهدة، لكن شاهدتها في غيرك، شاهدتها في الماء المهين الذي يتكوَّن منه الجنين، وفي الأم الحامل، وفي المرأة حين تضع وليدها صغيرًا ضعيفًا، ليس له قَدَم تسعى، ولا يَدٌ تبطش، ولا سنٌّ تقطع، ومع ذلك رُبي بعناية الله حتى صار إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الآن.
إذن: فدليل الضعف مشهود لكل إنسان، لا في ذاته، لكن في غيره، وفي مشاهداته كل يوم، وكل منا شاهد مئات الأطفال في مراحل النمو المختلفة، فالطفل يُولَد لا حولَ له ولا قوة، ثم يأخذ في النمو والكبَر فيستطيع الجلوس، ثم الحَبْو، ثم المشي، إلى أنْ تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشْد والفتوة.
وعندها يُكلّفه الحق- سبحانه وتعالى- وينبغي أنْ نكلفه نحن أيضًا، وأنْ نستغل فترة الشباب هذه في العمل المثمر، فنحن نرى الثمرة الناضجة إذا لم يقطفها صاحبها تسقط هي بين يديه، وكأنها تريد أنْ تؤدي مهمتها التي خلقها الله من أجلها.
لذلك، فإن آفتنا نحن ومن أسباب تأخُّر مجتمعاتنا أننا نطيل عمر طفولة أبنائنا، فنعامل الشاب حتى سنّ الخامسة والعشرين على أنه طفل، ينبغي علينا أن نلبي كل رغباته لا ينقصنا إلا أنْ نرضعه.
آفتنا أن لدينا حنانًا مرق لا معنى له، أما في خارج بلادنا، فمبجرد أن يبلغ الشاب رُشَدْه لم يَعُدْ له حق على أبيه، بل ينتقل الحق لأبيه عليه، ويتحمل هو المسئولية.
والحق سبحانه يُعلّمنا في تربية الأبناء أنْ نُعوّدهم تحمُّل المسئولية في هذه السّنّ: {وَإذَا بَلَغَ الأطفال منكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذنُوا كَمَا استأذن الذين من قَبْلهمْ} [النور: 59].
فانظر أنت أيها الإنسان الذي جعلتَ كل الأجناس الأقوى منك في خدمتك، انظر في نفسك وما فيها من آيات وما بين جنبيك من مظاهر قدرة الله، فقد نشأتَ ضعيفًا لا تقدر على شيء يخدمك غيرك.
ومن حكمته تعالى في الطفل ألاَّ تظهر أسنانه طوال فترة الرضاعة حتى لا يؤذي أمه، ثم تخرج له أسنان مؤقتة يسمونها الأسنان اللبنية؛ لأنه ما يزال صغيرًا لا يستطيع تنظيفها، فيجعلها الله مؤقتة إلى أن يكبر ويتمكَّن من تنظيفها، فتسقط ويخرج مكانها الأسنان الدائمة، ولو تأملتَ في نفسك لوجدتَ ما لا يُحصى من الآيات.
{ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54] أي: قوة الشباب وفتوته: {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] أي: ضعف الشيخوخة، وهذا الضعف يسري في كل الأعضاء، حتى في العلم، وفي الذاكرة {لكَيْلاَ يَعْلَمَ من بَعْد علْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].
ويظل بك هذا الضعف حتى تصير إلى مثل الطفل في كل شيء تحتاج إلى مَنْ يحملك ويخدمك إذن: لا تأخذ هذه المسألة بطبع تكوينك، ولكن بإرادة مُكوّنك سبحانه، فبعد أنْ كنتَ ضعيفًا يُقويك، وهو سبحانه القادر على أنْ يعيدك إلى الضعف، بحيث لا تستطيع عقاقير الدنيا أنْ تعيدك إلى القوة؛ لذلك يسخر أحد العقلاء ممن يتناولون الفيتامينات في سنّ الشيخوخة، ويقول: يا ويل مَنْ لم تكُنْ فيتاميناته من ظهره.
لذلك تلحظ الدقة في الأداء في قول سيدنا زكريا: {قَالَ رَبّ إنَّي وَهَنَ العظم منّي} [مريم: 4]؛ لأن العظم آخر مخزن لقُوت الإنسان، حيث يختزن فيه ما زاد عن حاجة الجسم من الطاقة، فإذا لم يتغذَّ الجسم بالطعام يمتصّ من هذا المخزون من الشحوم والدهون، ثم من العضل، ثم من نخاع العظم، وهو آخر مخزن للقوت في جسمك.
فمعنى قول سيدنا زكريا: {إنَّي وَهَنَ العظم منّي} [مريم: 4] يعني: وصلتُ إلى مرحلة الحرض التي لا أملَ معها في قوة، ويؤكد هذا المعنى بقوله: {واشتعل الرأس شَيْبًا} [مريم: 4].
وقلنا: إن بياض الشعر ليس لونًا، إنما البياض انعدام اللون؛ لذلك فاللون الأبيض ليس من ألوان الطيف، ومع الشيخوخة تضعف أجهزة الإنسان، وتضعف الغدد المسئولة عن لون الشعر عن إفراز اللون الأسود، فيظهر الشعر بلا لون.
ونلحظ أن أغلب ما يشيب الناس يشيبون مما يُعرف بالسوالف من هنا ومن هنا، لماذا؟ قالوا: لأن الشعرة عبارة عن أنبوب دقيق، فإذا قُصَّتْ أثناء الحلق ينفتح هذا الأنبوب، وتدخله بعض المواد الكيمياوية مثل الصابون والكولونيا، فتؤثر على الحويصلات الملوّنة وتقضي عليها؛ لذلك نلاحظ هذه الظاهرة كثيرًا في المترفين خاصة؛ لذلك تجد بعض الشباب يظهر عندهم الشيب في هذه المناطق من الرأس.
وقد رتب سيدنا زكريا مظاهر الضعف بحسب الأهمية، فقال أولًا {وَهَنَ العظم منّي} [مريم: 4] ثم {واشتعل الرأس شَيْبًا} [مريم: 4] ومع كبَر سيدنا زكريا وضعفه، ومع أن امرأته كانت عاقرًا إلا أن الله تعالى استجاب له في طلبه للولد الذي يرث عنه النبوة، فبشَّره بولد وسمَّاه يحيى، وكأن الحق- تبارك وتعالى- يقول لنا: إياكم، ألا أستطيع أنْ أخلق مع الشيب والكبر والضعف؟ لذلك قال بعدها: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم: 54].
وقال في شأن زكريا عليه السلام: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ من قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}.
[مريم: 9].
وقوله تعالى: {وَهُوَ العليم القدير} [الروم: 54] أي: أن هذا الخَلْق ناشيء عن علم {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] لكن العلم وحده لا يكفي، فقد تكون عالمًا لكنك غير قادر على تنفيذ ما تعلم، كمهندس الكهرباء، لديه علم واسع عنها، لكنه لا يستطيع تنفيذ شبكة أو معمل كهرباء، فيذهب إلى أحد الممولين ليعينه على التنفيذ؛ لذلك وصف الحق سبحانه نفسه بالعلم والقدرة.